الأحد، 30 أغسطس 2020

في معنى الخليفة ، باختصار

 12 أبريل 2020

أوّل ما انفلق الوجود انفلق على المحتد الكمالي الأعلى، فكان مظهره سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم، ثمّ منه خلق الله الخلّق والأكوان وكلّ شيءٍ، ومن منصّته برزَ العلمُ والأقدار، وقُسِمَتْ العطايا الإلهية. فلأجل هذا المحتد الكمالي الأعلى خلق الله الوجود، لأنّه عينُ النّسبة الدّالة عليه، وعين النّسبة الموصلة إليه سبحانه، فما يُتوصّلُ إلى الله إلاّ بهذا المحتد الكمالي، ولا يُعرَفُ الله سبحانه إلاّ من خلال هذا المحتد الكمالي. 

  أمّا الخليفة فهو شأنٌ آخر، أعلى وأخفى وأعمق. الخليفة هو صاحب النقطة المصمتة التي كانت مصمتةً مطلقةً في عمائها وكنزيّتها، بعلمها وبحور أمدادها وإطلاقها، وعظيم ما توارى من صفاتها وتجليّاتها الغير المنتهية. فما برزتِ النّقطة إلاّ بمظهرٍ ينوبُ عنها ويخلُفها في وجودها، فكان ذاك المظهر هو الخليفة، ليس سوى ذاتها العليّة قد تدّثرتْ وتنزّلت في ذلك المظهر. ومن هنا كُتِمَ شأنُ الخليفة، لأنّ مرتبته تعلّقت بعين الإطلاق، وبعين الذات العليّة، والذات العليّة منزّهة عن التحديد والتقييد، متعالية عن التعيين، فظهورُ حقيقته معلنةً يُبطِلُ حقائق كثيرة، وعقائد مركّبة، يُخشى على العقول والنّاس أن يلتبِسَ عليها حقيقة هذا الخليفة، وما جاءت من أجله الشرائع والرّسل لتأسيسه، فكُتِمَ مرّة واحدةً، وشأنُه العليّ، وإمامته العليا. فكان كما قال الشيخ الأكبر "زال عن رتبته بختمه". وإنّما أدرك العارفون الأمناء والمحقّقون أنّ لهذا الكون والعالم والوجود ملكاً، وسيّداً أعلى وأنّه عينُ الخاتم والخليفة. وقضى ظهورُه البشريّ، أن يُعطي الحقائق العليا، كصورة سرّ الذات المتلبّسة بالأضداد، وأن يُعطي المنازل التي ظهرَ بها في عمائه، فهو عينُ المادة الأصلية التي ظهرتْ بها المخلوقات والعوالم. فما يُعطي في بشريّته سوى الكثرة النّازلة عن المحتد الكماليّ الأعلى. ويظهرَ في طريق تحقّقه بكمالات التجليّات، أو أطرافها العليا، فيظهرَ معه وفي زمنه وعرشه أقطاب هذه الأطراف، طرف الظلمة والوهم، وطرف روح القدس ونبيّه عليه السلام. ويكونُ ظهوره معبّرا عن نهاية رحلة الدّنيا، من كونه نهاية رحلة الأسماء المتجليّة من الذات، فرحلتها كانت لتُعطي أخيراً مُحصّلتها، وليس محصّلتها سوى الإسم الأعظم، والذات، فيظهر بذاك السرّ وبتلك المحصّلة. 

الأحد، 16 أغسطس 2020

في قوله صلّى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "


في قوله صلّى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "

20 فبراير 2020

إنّ كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأدعيته، كلّها مُحكمَةٌ غاية الإحكام، بالغةٌ غاية المرام في العرفان، معرّفةٌ بالله سبحانه والحقائق والأحكام. ولربّما ظنّناها مجرّد سلسلة أدعيةٍ جامعة للخيرِ، كما نجمعُ الخير في أدعيتنا بتناوب العبارات وطلب الزيادات والفضائل والخيرات، وهي كذلك، ولكنّها ولا ريب أكثر من ذلك. وللنّصوص المقدّسة البطون، والمعاني التي لا تنفد، بحسَبِ التلقّي والعلمِ منها، وأحاديثه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه، مقدّسة "إن هو إلاّ وحي يوحى". فهو المشرّع والمفصّل لأحكام الله سبحانه، ولذلك جاء في كثيرٍ من الأحاديث وبألفاظ متقاربة ثناءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي ينقُلُ كلامَه بلفظه وتمامه، لا بمعناه، أدّاهُ كما سمعه، ..الخ. لأنّ ألفاظ النبوّة وترتيبها مهمّ غاية الأهمية في توصيل المعاني المرادة إلى أهلها، وأهلُها ليسوا حصراً على زمنٍ واحد أو مكانٍ واحد أو مناسبة واحدة، بل المعاني فوّارةٌ مستنزلة بحسَبِ التلقّي كما ذكرنا، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم " رحم الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فربّ مبلَغ أوعى من سامع". مُبلَّغ بفتح اللام، وفي رواية "نضَّرَ اللَّهُ عبدًا سمِعَ مَقالَتي، فحفِظَها ووَعاها وأدَّاها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ مِنهُ.". فلا يزالُ الفقه والعلمُ في زيادةٍ غير نافد، والكلامُ هنا يطولُ.

والخلاصة فكلامه صلى الله عليه وسلّم، علمٌ مُحكمُ غاية الإحكام، وأعلى مرامات العلم والعرفان التي يرومُها العلماء والعارفون.

فقال صلّى الله عليه وسلّم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك". في ثنايا دعائه بين يدي ربّه وهو ساجِدٌ، وهي عبارة ثنائية وعرفانية، تحقيقية، تُعبّرُ عن معرفته صلّى الله عليه وسلّم بربّه، في عجزِ الثّناء عن تأدية الثناء، وكذلك فيما يُعبِّرُ عنه العارفون والمحقّقون عن الوصول، حيثُ الحيرةُ الكبرى، لأنّ العبدَ وإن بلغ مهامه التحقيق، فهو حينذاك لم يبلُغ سوى نقطة الزيادة والحيرة والتلقّي الذي لا ينتهي، ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)). وكما قال صلّى الله عليه وسلّم (زدني فيك تحيّرا). وهؤلاء الحشوية لا علم لهم ولا عقلا تجاوز درجات العقل الأولى، فضلاً أن يبلغَ درجات العقول الكاملة والعظيمة، فلا يزالون يفتئتون على العلم، بمخالفة هذه الطائفة كلّما أوردتْ عن المعرفة ما لا يُدركوه، ولن يدركوه بما هم فيه، وعلى رأسهم شيخهم الذي شيّخوه على الإسلام ابن تيمية، في الافتئات على العلم العالي، ودعوى الردّ، وإبطال النّصوص، وقد قال فيه العلاّمة السبكي رضي الله عنه "علمه أكبر من عقله".
وقال الجنيد رضي الله عنه "انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة". وانتهى المحقّقون إلى الحيرة في معرفة الله سبحانه، من وجه كونه غيباً، وكنه ذاته غيبٌ مطلق عنهم، "الذين يؤمنون بالغيب". ومن وجه العلم به الذي لا يتناهى وتجليّاته التي لا تتناهى، فلا أدرك المحقّقونَ ذات الله وذاته أجلُّ من أن تُدرك، ولا أدركوا صفاته من وجه عدم التناهي المطلق للتجليّات.

وهنا مثالٌ بسيطٌ جدّاً ولكنّه يؤتي المعنى لمن دقّق .. فقط لنعتبر متغيّرًا : س ، تزدادُ قيمته وينطلِقُ إلى المالانهاية +∞ ، فانظُر كيف لاينتهي به المطافُ أبداً إلى حدّ معقول أو مُدرك، فلا نهاية لنهاياته، وهو كلّما زاد وسارَ زادتْ حيرتُه وذهوله في تلقّي ما هو أكبرُ ممّا كان عليه، فلا يزالُ في اتّساعٍ وتلقٍّ وحيرة بغيرِ نهاية. ولك أن تُسقط هذا المثال على تجليّاته سبحانه العظيمة اللامتناهية. وهنا قال الصدّيق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه "العجز عن درك الإدراك إدراك". إنّه يشبُه التعبير عن الحيرة، بالقول بالعجز، لعدم نهاية التلقّي والتجلّي، وقد قال المحقّقون أمثال الشيخ الأكبر رضي الله عنه أنّ مقام التحقيق أعلى من هذا العجز بدرجة، بالقولِ بالحيرة وعدم العجز معاً، لعدم تناهي علم الله المطلق سبحانه، فهو مشهدُ الحقّ سبحانه، فلا يقولُ بالعجز تعالى عن ذلك، ولا يقولُ بالتناهي لعدم تناهي علمه في نفسه البتّة.

والعبارة أعلاه التي صدرت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الغارقة في بحار المعرفة والتعظيم لله سبحانه " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".  المنزّهة لله سبحانه من مشهدِ دون مشهده العلويّ الذاتيّ في الطّرف الأوّل من العبارة في عدمِ إحصاء الثّناء عليه.  ثمّ قوله أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك، ففيها ما يُشيرُ إلى ذوق النبي صلى الله عليه وسلّم وتحقّقه بالتحقّق الذاتيّ والمشهد الحقيّ، وجمع التحقّقين والحقيقتين  في غايةٍ من الأدبِ والعلم والتعريف لنا بالله سبحانه. فنزّه الله تعالى عن الإدراك والإحاطة من نفسه ( نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم) ومن غيره سبحانه، بقوله " لا أحصي ثناءً عليك " .. فهذا تنزيهٌ من الجانب الخلقيّ والقول بالعجز، فعرفنا  كيفَ اجتمعت العبارةُ النبويّة الشريفة في شقٍّ من شقّيها بعبارة الصدّيق عليه السّلام، بالقولِ بالعجز عن الإدراك، وبذاتِ الوقتِ بتنزيه الله سبحانه عن العجز في إدراك الثناء على نفسه بذاته سبحانه عزّ وجلّ " أنت كما أثنيت على نفسك " . هذا ولنعلَم علم وعرفان المحقّقين من أمثال الشيخ الأكبر والجيلي بالله سبحانه وبحديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم، حيث أشاروا إلى المقامين، ومقام التحقيق بعدم القول بالعجز، كما هو حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والمعرفة والحقائق موجودة في أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّها متوارية بالجهل عنها، فغالب المسلمين والعلماء يفهمون منها ما بلغته أفهامهم ودرجاتهم في العلم، فلا يقرؤون من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلّم الحقائق العالية، التي تُقراُ وتُعرفُ بالمعرفة بالله وبالشهود.

قلنا جاءت العبارة أعلاه في ثنايا دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : " اللَّهُمَّ أعُوذُ برِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبِمُعَافَاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ. ".
فاستعاذ النبيّ في مقام الصفات أوّلاً بالرّضا عن السّخط والغضب، ثمّ تنزّلَ إلى مقامِ الأفعال بالاستعاذة بالعفو من العقوبة، لأنّ العفو قد يقعُ قبلَ الرّضا، قد يعفو الله سبحانه، ولو لم يرضى، فإذا تعذّر الرّضا، فعلى الأقلّ أن يقعَ العفوُ وتُمحى وتُرفعَ العقوبة بالعفو. ولهذا خصّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة القدرِ بسؤال العفو، اختصاراً لأمّته والعباد فيما يُحقّق لهم دفع العقوبة وجلبِ الخير كلّه، فالعفو أسرعُ وأنسَبُ، "اللّهمّ إنّك عفوّ كريمٌ تحبُّ العفو فاعفُ عنّي". فإذا عفا الله جاءت بعده الملحقات ..
قال الله تعالى {... أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133]. فتدرّج الله سبحانه في درجات الإحسان، وجعل كظم الغيط قبل العفو والعفو قبل الإحسان. ولعدم الإطالة لا نريدُ إيراد تلك القصّة للجارية النبيهة التي لمّا علمت من مالكها حسن خلقه وتقواه ومعدنه الطيّب، صبّت عليه صحن الحساء ( ولعلّه كان ساخناً )، فغضب فقالت والكاظمين الغيظ فكظم غيظه وهدأ غضبُه، ثمّ قالت والعافين عن النّاس، فقال عفونا عنكِ، ثمّ قالت والله يحبُّ المحسنين فقال أعتقناك لله فاذهبي فأنت حرّة. فقلنا : أسبق النبيّ الرّضا لأنّه مانعٌ للسّخط الموجب للعقوبة، ثمّ أتبعه بالعفو المانع للعقوبة. ثمّ ختم النبي الاستعاذة بذات الله منه، أعوذ بك منك. وذلك أنّ معرفته صلّى الله عليه وسلّم بالله تدرّجت به إلى الاستعاذة الذاتية فإنّ معرفة الله تُوجِبُ الخشية منه، قال صلّى الله عليه وسلّم " أنا أعرَفُكم بالله وأشدُّكم له خشية ". فساقَ بعد ذلك وصفَ الله سبحانه بما لا يتناهى من علمه وتجليّاته، ولا يُدركُ من ذاته سبحانه، بعد الاستعاذة الذاتيّة، للمناسبة .. فهذا دعاءٌ عظيمٌ جمَعَ من العلم بالله ما جمَعَ، وفيه من الخيرِ ما فيه، كذلك في الاستعاذة في جميع المقامات ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً. تماماً كما هو التوحيد متدرّجٌ أفعالٌ وصفات وذات. ولكلّ مقامٍ ما يبعَثُ من التحقّقاتِ فيه تشهدُ عليه تلك التحقّقات، كما قال بعض العارفين من وحّد الله في الأفعال توكّل، لعلمه أنّ الأفعال كلّها من الله سبحانه، ومن وحّد الله في الصّفات رضيَ وسلّم، لمعرفته بصفاتِ الله سبحانه، ومن وحّد الله بالذات، فهذا قد غابَ في الذات فهو محقّقٌ من المحقّقين. والله أعلى وأعلم.

السبت، 15 أغسطس 2020

الحيرة واللاتناهي لعظمة الله سبحانه وتجليّاته وعطاياه


الحيرة واللاتناهي لعظمة الله سبحانه وتجليّاته وعطاياه ! كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
هناك على المجموعات العددية والأعداد قفْ لتأخذ شيئاً من عظمة هذه اللانهايات. فبين العدد 1 و 0 ، يوجد مالانهاية ∞ من الأعداد. فليست المجموعات وحدها غير منتهية، فبين كل عدد وعدد يوجد ما لا نهاية من الأعداد.
وبين مثلاً : 0.123585 و 0.123586 يوجد ما لانهاية ∞ من الأعداد.
.
وبين العدد 001 --- ن --0.00 و العدد 002 --- ن --0.00 ( العدد ن --> ∞)
.
مهما كان العدد صغيرا إلى مالانهاية ، فيينه وبين الذي يليه يوجد مجال لانهائي من الأعداد. والعكس كذلك، مهما كان العدد كبيراً فيوجد بينه وبين الذي يليه مالانهاية من الأعداد.
ولعلّ هنا شيءٌ من العظمة المخفية عن العوالم، فنحنُ لا ندري، في مساحة ما صغيرة في الهواء قربنا هناك، يوجد عالم كامل مثلنا، بسماواته وأرضه ومجراته، وأقداره، وناس تسعى فيه. هناك حيث مساحة مهملة بالنّسبة لك، قد يكون عوالما وعوالما مثلنا.
.

سأل سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
- ماذا لو أنّ السموات والأرض لم تأتيا طائعين ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - لسلّط الله عليهما دابة من خلقه تبتلعهما ؟
فقال سيدنا بن عباس : - وأين توجد هذه الدّابة ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - في مرجٍ من مروج الله.
قال ابن عباس : - وأين يوجد هذا المرج ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - في عالم من عوالم الله. - أو كما قال -
قال ابن عباس : فاستحييت أن أسأله فوق ذلك.
.
أخبرنا بهذا الحديث أحد مشايخنا - رضي الله عنهم- ومثله مروي في كتب الحديث عن سيدنا موسى عليه السلام يسألُ الله سبحانه.
.
فهذا الحوار ترجمة لما ذكرناه عدديا وحسابيًا، فعالَمُنا الذي نعظّمه اتساعاً وكبراً، قد تبتلعه دابة ترعى في بعض المروج والحقول، تبتلعه قرب عشبةٍ هناك.

فكلّ شيءٍ يعكسُ حقائقاً ومعلوماتٍ. ولنعلَم أنّنا لسنا سوى عالمٍ بسيط صغير من عوالم غير منتهية عند الله سبحانه. وكما قال بعض العارفين بالله : في كلّ لحظة عند الله قيامة تقومُ وحسابٌ يُنصب.

الخميس، 13 أغسطس 2020

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 91


المهدي خليفة الله الظاهر بكلّ الرتب الوجودية
السبت 13 إبريل 2019

المهدي سالك على كلّ المنازل والمراتب، متحقّق بها، لكونه الخليفة الذي ظهر بها، وتلك هي حجّة الله فيه على الخلائق والملائكة، أنّه متحقّق بمراتبهم، لكونه شفّاف السرّ، فيتلوّن بجميع الأواني، يتنزّلُ في سلوكه إلى مرتبة الوهم والعدَم، دركة دركة، ليقيمَ الله به الحجّة أنّه عينُ الذي ظهرَ بالوهم وعينُ الذي أجلى معنى العدم، فبه الله خلق ما خلَق، ويقيمَ به الحجّة أنّه الوليّ الذي تولّى كلّ مرتبة، فلا تزالُ ولايته ظاهرةً في كلِّ منزلة ينزلها، فهو الوليّ بالأصالة، وسمّاهُ النبي صلى الله عليه وسلّم، المهدي، أي مهدي من الله بصفةٍ مطلقة، مجذوبٌ أمرُهُ كلّه لله تعالى، فلولا ذاك لما كان لتسمية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم معناها وخصوصيتها، فما خصّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلاّ باسم المهديّ، كأنّه المهدي المطلق، وإن ظهرَ في ظاهر الأمرِ بغير ظاهر الهداية، التي هي التحقّق بالشريعة المحمديّة، ولكنّه مهدي بلغة الحقيقةِ بتمامِ الهداية الإلهية، وعنه حاجج الله ملائكته لمّا قالوا مستشنعين مستغربين ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) (البقرة-30). فلا يزالُ الذين على أقدام هؤلاء الملائكة الأرضيين متمسّكون باستنكارهم لجهلهم بأمر الله تعالى ومنتهى حكمته، ولا يزالون يُحاججون، حتى مع سبق الخطاب الإلهيّ الذي فنّد استنكارهم ومحاججتهم، ولكنّها الحقائق والقوابلُ حاكمة، فلا استغراب. قال سبحانه وتعالى لهم : إنّي أعلمُ ما لا تعلمون. وهل قلتُ لكم إلاّ أنّني جاعل خليفة في الأرض ؟ أرض تجليّاتي الحقيّة والخلْقية ؟ فكيف يكونُ خليفةً ولا يسعُ منّي جميع التجليّات ؟ فذلك لا يكونُ. قال سبحانه (( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) )). فامرُ الخلافة متعلّق بالأسماء، ولا يكونُ خليفةً إلاّ بوسعه وخلافتي في جميع أسمائي وتجليّاتي. فالخليفة في التحقيق هو صاحب الكتاب المكنون، الذي تجلّى الله فيه بكلّ شيءٍ في آزاله، هو العماء حيث كان الله سبحانه قبل أن يخلق الخلْق، كما ورد في الحديث النبوي الشريف. عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: ((أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه)) رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، وصححه الترمذي في موضع، وحسنه في موضع، وحسنه الذهبي.

فهو حديث صحيح، واعتمده العارفون، وموافق للحقائق كذلك، فهذا العماء هو الكتاب المنزل على المهدي. فالقرآن مادته القراءة من هذا الكتاب، والكتاب مادته الكتابة، فهو الملكُ الأعظم المسمّى الرّوح والمسمّى أمرُ الله، والمسمّى كذلك الحقّ المخلوق به ، أي الكاتب لأقدار وأقضية الله تعالى في آزالها. والمهدي يسّميه أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذلك المحقّقون من العارفين بالله عليهم السلام القائم بأمر الله. والمقصود ممّا أوردناهُ، أنّ الخليفة هو الذي يظهرُ بالأنموذج الفريد عند الله سبحانه، فتقومُ به الحجّة على ختم الولاية، أنّه الوليّ بالأصالة التي تولّى الله به كلّ شيئٍ خلْقاً وظهوراً وتصريفاً. فمنازلُه محدّدة معلومة عند الله تعالى قائمة بالله تعالى، يُعطي كلّ مرتبة خلقية حقّها، كما يُعطي كلّ مرتبة حقيّة حقّها. لسرّه الساذج المحض القائم فيه. وهي حجّة الله فيه على الخلائق والملائكة أجمعين، وهي كذلك إظهار لوظيفته التي خصّه الله بها وهي الخلافة الكاملة والكليّة.

وإليه الإشارة في قوله تعالى ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)) (الكهف-1). فسورة الكهف إشارتها بالتخصيص إلى المهدي فهي سورة الولاية وسورة الحقيقة، وهو هنا نعته بالعبد الذي خصّ بنزول الكتاب عليه، ونعته بعدم العوج، فلم يجعل له عوجاً ولا الكتاب ذو عوجٍ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيراً أن يكون في كتابه العوجُ، أو عبده الذي خصّه بهذا الكتاب، وسبق الآية الحمدُ، فكأنّه العبدُ الحامد لله تعالى حقّ الحمد، لمّا تجلّى بكتابه، فأعطى كلّ شيءٍ حقّه وكلّ منزلة ومرتبة حقّها. والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل. والحمد لله ربّ العالمين.

الأربعاء، 18 يناير 2017

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 90


كان الله ولم يكن شيء غيره


إنّ الحوادثَ والمخلوقات، أصلُها القديم الواحد الأحدُ سبحانه، وليست غيره في القِدَم. فلمّا أرادَ سبحانه لها التجلّي والظهور، وإخراجَها من عَدَمِها المكنون، لتكون. أوجدَ لها واسطةً ونسبةً بينها وبينه، لها وجهٌ إليها من حيث حدوثِها وكينونتها من العدم، ولها وجهٌ إليه من حيث الألوهية والقِدَم. فكانَتِ الواسطة سيّدُ الوجود صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. به وقعتِ النّسبة بين الحادثِ والقديم، وبه يحصُلُ التعرّفُ إلى الخالق الواحد الأحد سبحانه العظيم. ولا بُدَّ لكينونة هذه الحوادث والمخلوقات أن تبدأ رحلتَها من كينونتِها إلى بساطِ القدمِ وحضرته سبحانه. وما ثمّ إلاّ هو سبحانه، ولكنّ واحديتَهُ وكثرتَهُ الدّالة على صفاته وأسمائه وعلمه وآلائه، أعطتْ هذه الحوادث تلك النّسبة إليه، إذ هو أصلُها وهو مبدؤها ومنتهاها، فصحّ لها البقاءُ به سبحانه. ولمّا كان التكليفُ خاصاًّ ببني الإنسان لمّا خُلِقَ على الصورة الإلهية ونُفِخَ فيه الرّوح الإلهيّ، فقد خُصّ إذ ذاك هذا الإنسانُ بالبقاء به سبحانه في حضرته للشّهود. فوقعتِ الرّحلة الإنسانية من الكينونة الدنيوية إلى هذا البقاء المقدّس. بواسطة نبيّ الرّحمة وصاحبِ النّسبة والبرزخ. صلواتُ الله وسلامُه عليه. فما ثمّ في مقاديرِ كلّ عينٍ ومخلوقٍ إلاّ ما يكشِفُ عن ارتباطاته بما حوله من أسماء وأشياء، ليستوفي رحلته من الحدوث إلى البقاء. وهي المسمّاة الشؤون الذاتية، كلّ يومٍ هو في شانٍ. وكانتِ البدايةُ من برزخِ الرّحمةِ، لأنّها واسطةُ الحدوث ونسبةُ التعرّف، فوقعَ منها الابتداء. ولأنّ الرّحمة محتدٌ ذاتيّ، فكان النّفَسُ الرّحماني برزخاً بين القديم والحادثِ. وكان المنتهى إليها، إلى الرّحمة. وكانتِ المقاديرِ كلّها من الرّحمة؛ لأنّ كلّ عينٍ إنّما هو مظهرٌ ذاتيٌّ لا وجودَ له في الحقيقة، بل هو قائمٌ به سبحانه. فكانتِ المقاديرِ لكلّ عينٍ صادرةٌ من برزخِ الرّحمة تجليّاً وقسمةً ومن عينِ الذاتِ عطاءً ومنّةً. إنّما ساقها إلى أصلِها، ترتيبُها وحقيقتُها التي وُجدَتْ عليها. بهذا برزَ العالمُ بهذا الإحكامِ والإبداع والألوان. كلُّ شيءٍ مردُّهُ إلى الواحد الأحد سبحانه وعَوْدُهُ إليه هو، لا إله إلاّ هو. وأعطتِ الحقائقُ هذا الإنسان، محتدُهُ ذاتيّ جامع. فكان خليفة الديّان. جُمِعَ فيه ما تفرّقَ في العالَم، فهو مختصر العالم، ولا بُدّ من هذه التراتبية في المخلوقات. فالمخلوقات دوائر، بعضُها أجمعُ من بعضٍ. بحسبِ ما مثّلتِ الحقائق الجامعة ودونَها. وكان الإنسانُ في الأزلِ؛ خليفة لله سبحانه. جامعاً؛ سرّهُ أوليّ، ومظهرهُ آخريّ. بين سرّ اللّطافة ومظهرِ الكثافة. وكانَ في الإنسانِ اختلافٌ وتنوّعٌ بحسب رتبة كلّ عبدٍ ومظهريته وجامعيته كذلك؛ فكانَ الخليفة الأوّلُ الجامِعُ مظهرُ الذاتِ وحاملُ كنهها الأعظم. قامَ فيه الحقّ سبحانه لطيفةً ذاتية محضةً، وهو المعبَّرُ عنهُ بالخاتم والخليفة والمهدي. ثمّ كان رسولُ القدم وواسطة الخلق والجامع لهم والقاسم لما في القدم الفاتحُ الخاتم قامَ فيه الحقّ لطيفة ذاتية صفاتية جامعة صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ ترتّبتِ المظاهرُ والأسماءُ خلفاءً في هذا النّوع الإنسانيّ بحسبِ ما أعطتِ الحقائقُ في أزلِها. والله أعلى وأعلم. 


الجمعة، 21 أكتوبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 89


لبسم الله ..

ظهور خاتم الولاية في آخر الزمان عليه السلام هو في الحقيقة من معاني ومظاهر تشريف سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أعظمَ التشريف، ودلالة كذلك على أنّ خاتم الولاية منزلة ومرتبة ثابتة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقصِدُ أنّ ذلك ظهورٌ لباطنه صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الولاية باطنُ النبوّة، لأنّها الوجه الإلهيّ للعبد، فلمّا ظهرَ خاتم الولاية فقد تجلّى أعظم ما يمكنُ أن يكونَ مدّخراً من المنازل والمراتب الموجودة إلى صحائِفه ومنازله صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم مجلى الظهور وأرض التجلّي وجميعُ ما يتجلّى مضافٌ إليه ونازلٌ بواسطته، فهو سيّدُ الوجود. فتأمّل في هذا الفضل العظيم والشرف الكبير. وبهذه الختمية للولاية نال صلوات الله وسلامه عليه المقام المحمود. فإنّ المقام المحمود هو لصاحبه المحمود خاتم الولاية، وظهور هذا الخاتم المهدي هو علامةٌ على تتويجه صلوات الله وسلامه عليه بذلك المقام المحمود والختمية في الولاية.

إن قلتَ إنّ خاتم الولاية هو مرتبة من مراتبه صلوات الله وسلامه عليه، فهذا صحيحٌ من وجهٍ، فإنّ كلّ التجليّات والمظاهر انفلقت وظهرتْ بواسطته صلى الله عليه وسلّم. إلاّ أنّ ذلك لا يعني تداخل المراتب هنا بين خاتم الأنبياء وخاتم الأولياء عليهم السلام جميعا، بل ذلك يعني أنّه صلّى الله عليه وسلّم نالَ وجهاً كاملاً من وجوه هذه الختمية في الولاية، التي هي لصاحبها بالأصالة الوليّ بالأصالة. فإنّ ولاية الخاتم شمسية ذاتية وولاية خاتم النبوّة قمرية مستفادة من ولاية الخاتم للولاية. وإن كان هذا الخاتم للأولياء حسنةٌ من حسناته صلى الله عليه وسلّم كما ذكرنا، فهو من أهل بيته نسباً وهو من أمّته اتّباعاً، وهو إن جاء يحكمُ بشرعه صلّى الله عليه وسلّم. فهو حسنةٌ من حسناته، كذا قدّر الله الحقائق وعقدها عقداً قائماً على العظمة والجمال.

وتجدُ هذا المعنى في التشريف قد ذكره الشيخ الأكبر في كتاب عنقاء مغرب في قصيدته قائلاً مفتتحاً :

فمن شرَفِ النبيِّ على الوجودِ ... ختامُ الأولياءِ من العقود

فانظُرْ كيفَ ربطَ شرف النبي صلّى الله عليه وسلّم بظهور ختام الأولياء، فمن يفهم حقيقة خاتم الولاية فإنّهُ يفهم عظمة الشرف في ظهوره في الدّنيا، والظهورُ والتجلّي كلّهُ محسوبٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنّهُ واسطة الظهور والتجلّي. وكذلك قال صلوات الله وسلامه عليه "أبشِري يا فاطمةُ ، المهديُّ مِن ولَدِكِ." (رواه أبونعيم ، وابن عساكر). ومعنى الحديث صحيح، وهو نفس معنى ما جاء في قصيدة الشيخ الأكبر، أبشري يا فاطمة فإنّ المهدي من ولدك، فبشّرها كأنّهُ يقولُ لها هذا المهديُّ مضافٌ إليكِ فهو من مظاهرِ ومعاني زيادة تشريفٍ لكِ؛ وذلكَ يدلُّ على قدرِ هذه الإضافة المفاضة من قدرِ المضاف وشرفِه.

وأمّا في ميزانٍ آخر، ميزان الحقائق، فإنّ الأمرَ منوطٌ بالتعيّن الأوّليّ، فليس قبل خاتم الولاية من مُتعيّنٍ، فهو أوّل متعيّن ذاتيّ دلّ على الذات، فهو صاحب اسم الذات، الإسم الأعظم. وإليه ينتهي كلّ شيءٍ وجميعُ المراتب والمنازل، فهي منهُ متعيّنة. فهو الخليفة الجامع الأوّل. ومعنى الخليفة أي جميع قوالب الإنسان وتعيّناته ومراتبه ومنازله ترجِعُ إليه، فهو أصلُها وهو جامعُها، فهذا هو معنى الخليفة، فهو الصورة الجامعة وهو الظاهرُ في كلّ الخلائف على اختلاف منازلهم ومراتبهم، وهو باطنُهم من حيث الحقيقة. ثمّ كان ثاني متعيّنٍ هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وخاتم الأنبياء، وهو صاحب برزخ الرّحمة والمستوى الرحمانيّ. وكان واسطةً إلى الله سبحانه لجميع الخلق. وهذه حقائقٌ عزيزة قد يختلطُ على البعض ممّن يخوضُ في هذه المجالات، أو يظنُّ العرفان والتحقيق في معرفته، أنّ الأمرَ غير ذلك. فهو لم يتحقّق بمعرفة سرّ التعيّنات ومراتبها. فالإسمُ الأعظم هو سيّدُ الأسماء وقطبُها؛ ثمّ يليه اسم الرّحمن الذاتي الصفاتي في الرّتبة، والتعيّن. فالسيّدُ الصّمدُ هو صاحبُ الإسم الأعظم، الذي كان مظهراً ذاتياً للحقّ سبحانه، ومرآة ذاتية لتجلّي الله سبحانه. وبدايةُ المعرفة والعلم لكلّ عينٍ، هو من حيث تعيّنه؛ إذ كلّ عينٍ ومخلوقٍ صورتُهُ هي صورة علمِ الله به، وعلمُ الله به يبدأُ من تعيّنه الأوّليّ. فافهم هذه النّكتة تُدرِك بها فضلَ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أوّل تعيّنٍ في الخلق ومنه انشقّت الأسرار وانفلقت الأنوار وبدأت رحلة العلم بالأعيان والموجودات. وتُدرك فضل الساداتِ وتفاوتهم بالعلم بالله سبحانه، فالعلمُ هو سرُّ الوسع وسرّ التقدّم والتعيّن. والله أعلى وأعلم.


الجمعة، 23 سبتمبر 2016

ما غادرك ربّك حتّى تسأل عن دليل وجوده؛ إنّ صفاته فيك وتجليّاته؛ تجلّى عليك فبه أنتَ تشهد العالم وما حولك ..




لبسم الله ..

تريدُ أن تشهدَ صفات الله فيك ؟!.. إنّه شهودك لما حولك والعالم .. فانظُر العالم، وشاهد .. فهل تُشاهدُ إلاّ مظاهرَ صفاتِه المتجليّات فيك سبحانه ؟! .. تلك القيّومية للعالم وما حولك إنّها فيك، تلك التناسقية والإبداع والجمال والبهرُ والسّحرُ إنّها فيك .. فبه وبصفاتِه أنتَ تشهدُ ما تشهدُ. ما غادرك ربُّكَ حتى تسألَ عن وجوده ودليله .. إنّك تسمعُ بتجلّي اسم السّميع عليك، وتُبصِرُ بتجلّي اسمِ البصير عليك، وتحسُّ وتجدُ وتتذوّقُ وتتنوّعُ حولكَ المظاهر والحياة والكائناتُ بتجلّي أسمائه وصفاتِه فيك .. إنّك تُدرِكُ بتجلّي اسم العليم والهادي فيك، ما أنتَ براءٍ إلاّ ما تجلّى به عليك لتراهُ، وذلك قدرٌ مشتركٌ للتجلّي العامّ على البشر، وإنّما زادتِ المرائي والكشوف والفتوح بحسبِ التعقّلِ القلبيّ، والشهود القلبيّ للعباد، فتخصّص البعضُ عن العامّ، بتنوّر القلوبِ وانفتاح بصائرها فأصبحت تشهدُ من العوالم والأطياف أكثر من غيرها. ولهذا اختلفتِ مسمّيات العقول اصطلاحاً. فهناك عقلٌ معاشيّ، وهو العقل المدبّرُ للحياة والتجلّي العام للكائنات والكثافة بصفة عامّة، واستوى فيه جميعُ البشر. ثمّ بدأتِ العقولُ تتدرّجُ في الزيادة بحسبِ تفتّح بصيرة القلبِ. والعمدةُ هو القلبُ في زيادة الترقّي، واتّساع محلّ التجلّي ... وإنّما جعلَ الله العقلَ المعاشيّ له اتّساعٌ في المحسوسات ومظاهرها وآثارها وقوانينها بحسبِ التوجّه لها وطلبِ علومها، وجعلَ الله القلبَ مجالَ وسْعِ العقلِ، وبحسبِ وسعِ القلبِ وتنوّرِه، يسعُ من العقلِ أكثر، ويقرأ من غيبه أكثر من ذي قبل، فتنفتحُ له الغيبيات على قدرِ التوجّه القلبيّ الصحيح، فتكونُ فتوحاً مختلفة متنوّعة، إلهاماتٌ، أو كشوفٌ، أو فهومٌ، أو أحوالٌ تتنزّلُ فتسعُ القلبَ والعقلَ معاً، تتقدّمُ به في مجالاتِ القربِ من الرّوح، أي من الله سبحانه، فالرّوح بالله عارفة وهي واسطة المدد والأنوار.

ثمّ إنّ الإنسانَ - مُطلق الإنسان - لا يزالُ في تقدّمٍ مستمرٍّ من حيث التجليّات والأسماء وسعتها، وها أنتَ ترى هذه التلوّنات والعلوم والاختراعاتُ التي تتولّدُ مع الوقتِ وتزدادُ كثرةً وتفرّعاً واتّساعاً، فهي في الحقيقة معبّرةٌ عن زيادة التجلّي الأسمائي وسعته، والإنسانُ اليوم أوسعُ من الإنسان من مئات السّنين ولا شكّ، فالإنسانُ في زيادة وترقٍّ، وإنّما ذلك عكسَهُ رحلةُ تجلّي الأسماء التي هي في زيادة وانتشارٍ حتّى تصيرَ كما هي اليوم نسخةً للإنسان الخليفة الذي جعله الله باب خزانة الجود الإلهيّ على الإنسان. فالبشرُ صورة ونسخةٌ لأقطاب زمانهم، فهذه حقيقة، صورةٌ من حيث التجليّات الأسمائية، ولمّا كان آخر الزّمان فقد كان مظهراً على التجلّي الأوسع وعلامةً على ظهورِ الخاتم، وبه صحّ لهذا الزّمان هذا التجلّي الواسع، فإنّ هذا الظاهر المتوسّع المتلوّن والمتنوّع الثريّ، يُقابلُهُ باطنٌ عظيم ونورٌ كبير، فإنّ هذا الظاهر القاتِم من حيث كسوف الأنوار وانتكاس الفطر وانعكاس المفاهيم، هو مظهرٌ لتنوّع الحضرات، وسعة الآثار الأسمائية، وظهور العلم الماديّ المقابل للعلم الباطن، ولا يقومُ علمُ المادّة ودولة الظاهرِ إلاّ بوجودِ النّفس، وكذا فإنّ تجلّي أمدادِ القدس لا يكونُ إلاّ يزوالِ النّفس، وعليه فالنّفسُ آيلةٌ للزوّال، ودولتُها وصولتُها، وحلفاؤها .. وهذا الزوالُ، يُقابلُه القهرُ الذي يزدادُ على الدّنيا، حتّى تتجلّى الوحدة الذاتية بإمامها الخليفة، خليفة الله.

وعوداً لما بدأناهُ، فإنّك أيّها العبدُ مجلى أسماء الله وصفاته في شهودِها في العالَم، حتّى وإن كنتَ عاجزاً عن شهودِ باطنِها وحقيقتها، فإنّك مشاهدٌ لآثارِها ومظاهرها فيك أنتَ، إذ لو لم تتجلَّ فيك لما قامَ للعالم وجودٌ عندك. فافهم. فالوجودُ قائمٌ كلّه فيك، إمّا بالشهود البصري والحواسيّ، أو بالشهود التخيّلي، أو بالشهود التعقّلي والفكري، والشهود العلميّ، فأنتَ لمّا تعقّلتَ الله سبحانه في عقلك وذهنك، فقد وسعتَهُ سبحانه فيك. وذلك دالٌّ على قابليتك لوسْعِ جميع الوجود، وتلك هي حقيقة الصورة من وجه تعقّلي فكريّ. فافهم، الصورة التي خلق عليها الإنسان من قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". أمّا حقيقتها الكاملة فهي الوسع القلبيّ الذي هو وسعٌ علميّ ووسعٌ عياني لجميع التجليّات، وإن لم تتناهَ هذه التجليّات الغير المتناهية. والله أعلى وأعلم.

الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 88




عوداً لحرف الباءِ وأسرارِه، وإيحاءاته، فحرفُ الباءِ هو ثاني الحروف الأبجدية، بعد الألف. عبّرَ عن الإثنينية والشّفعية في أنموذج التوحيد الذي أقامته الحروف ورسومها، ولم يكن رسمُه عبثاً. والإثنينة والشفعية هي إظهار التجلّي الواحديّ والحقيّ، من واحديته الجمعية إلى ظهورِ كثرته الفرقية، ومن مجلى الحقّ سبحانه إلى تجلّي الخلق والأكوان وظهور العالم، الذين هم أثرٌ وانفعالٌ عن أسماء الحقّ سبحانه.

فأعطى رسمُ الباءِ هذا المعنى، لمّا كان الباءُ ألفاً ممدّداً، والألفُ هو أوّل موجودِ من الكنه والعماء، أي أوّل حرفٍ تجلّى من النّقطة. لمّا كان رسمُه نقطتين، فبَعُدَ عن النّقطة بُعداً واحداً، لذلك ما عدّهُ المحقّقون إلاّ من جنسِ النّقطة، إذ هو مجلى عمائها، من كونِهِ ضمّ بُعد العماء والأحدية المنطوي في النّقطة، إذ هي نقطة مصمتة، نقطة دلّتْ على لا شيء، ودلّت على كلّ شيءٍ. انطوى فيها كلّ شيء إذ من جبّتها برز كلّ شيء، والحروفُ أصلها ومرجعها نقطة؛ وضمّ هذا الألف بُعداً آخراً معنوياً مجرّداً هو الأسماء الإلهية؛ الأسماء التي انبثقت من العماء، وتمايزتْ في الألف بلانهاياتِها، فالأسماءُ الإلهية غير منتهية، ولها أمّهاتٌ تجمعها كما جاء في الحديث النبويّ الشريف مئة إسمٍ، ولها إسمٌ جامع لها كلّها وهو اسمُ الله، لذلك كان الألف معبّراً عن اسمِ الله سبحانه، إذ هو المعبّرُ عن الجمعية الأسمائية كلّها، وهو الواسطة لها من بحر العماء، أو من عنصر الحياة، أو من نقطة الكنه، فهو مظهرُ النقطة، ومظهرُ العماء، والإمامُ المبين الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ. فالألف هو العماء والكنه والنّقطة وهو الجمعية الأسمائية الكبرى المتجليّة من بحر النّقطة والعماء، ولهذا اختصّ بالواحدية، وكذا الأحدية، ألف ونقطة. فكان رسمُ الباءِ معبّراً عن الألف فهو ظلٌّ للألف، فجاء ممدّداً وليس قائماً كما هو الألف ليعطي معنى الظليّة، ويعطي ما يوحيه رسمُهُ ووظيفته ومقامُه من التشفيع والواسطة بين القدم والحادث، وذلك ما سنذكره هنا؛ فجاءت الباء ألفا ممدّداً وهو بُعدين ونقطة تحت الألف الممدّد وهو بُعدٌ ثالث، فبَعُدت عن النّقطة بُعدين وعن الألف نقطة، وتلك هي مرتبتها، وفي النّقطة التي جاءت تحت الباء، الإشارة إلى سرّ الألف، أي نقطته المصمتة، وهو مقامُ الإنسان في الحروف، رغمَ كونه حرفاً مغايراً للحرف الأوّل، فلم يكن سوى على صورة الحرف الأوّل، وحاملاً لسرّه كذلك، أي قابلاً لسرّه الشهوديّ التامّ، فقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورته“، وهذه الصورة هي الألف، وقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورة الرحمن“ وهذه الصورة هي الباء، ولكلّ منهما دلالة، فصورة الألف هي الاستغراق في الجمعية الأسمائية بين الواحدية والأحدية، ومقام الخلافة الإلهية، وشهودِ كلّ شيءٍ في حُكمِ الواحدية وعدميّته الأصلية، وصورة الباء هي الجمع والفرق ومقام البقاء الأوّل وقاب قوسين. فجاء حرفُ الباءِ قارئاً لحرفِ الألف من قدِمِه إلى تجلّي حوادثه، وجاءَ نِسبةً كمالية صفاتية تدلَّتْ منها الموجودات والحوادث، ولذلك جاءَ رسمُه ألفاً نائماً وتحته نقطة وينعكسُ عبر تلك النقطة الكنهية ألفٌ ظلاليّ تحت النّقطة هو صورة وإسقاطُ الألف الغيبيّ فوقها، فحرفُ الباء وظيفته قراءةُ الألف الغيبيّ الأسمائيّ والتجلّي به إلى ألف ظلاليّ حدوثيّ هو عالم الصور والتعيّنات، هو عالم الأكوان. مثل الصورة التي وضعناها فالصورة تبدو كحرف اكس ( X ) أو كساعة رملية، تتقاطعُ عبر النقطة التي تحت الباء، فالباء شفّعت عالم الواحدية والأسماء، وهو الإسم الأعظم، أو حرفُ الألف، أو عالمُ القدَم إلى عالمين الأوّل العالم الذي ذكرناه، عالم الأسماء، والثاني هو عالم الأكوان. وهذا عينُ ما وصفنا به اسم الرحمن الذاتيّ الصفاتيّ الجامع، فهو راحمُ الأسماء الإلهية من اسمها الأعظم الجامع لها ” الله“ إلى ظهورِ آثارِها وصورها ومظاهرها في العالم والأكوان. فصارَ هذا الاسمُ وهذا الحرفُ (الباء) واسطةً للعالم الشهاديّ والصوري والتعيّني الذي ظهر به وبواسطته، فتأمّل. ولهذا قال الله سبحانه في الحديث القدسيّ ”لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك“، أي يا محمد لولاك ولولا مظهرك ومقامُك الذي أقمتُه لك، ونسبتُكَ التي خصّصتها لك في أزلي ما خلقتُ الأفلاك، ولا ظهرَتْ، فأنت واسطتُها والنّسبة بيني وبينها، وأنت حجابي الأعظم دونها. طبعا حرفُ الباء الذي أعطى الرّتبة الثانية هومجلى خير الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأوّلهم وروحهم وواسطتهم، ولذلك كان الرّسول الجامع الأوّل، وكان النبيّ الأمثل، صلى الله عليه وسلّم، نبيّ الأنبياء، نالَ مقامَ الإنباءَ، وختم النبوّة في أمّ الكتاب، بهذه الواسطة العظمى، والنّسبة العليا التي تدلّت وتجلّتْ منها سائرُ الأشياء والأعيان؛ وكان سيّد العالم والأكوان، وكان صورة الإنسان الكامل الجامع للبرزخية بين شقّيها وقوسيها، الرّوح والجسد، الغيب والشهادة، الحقيّة والخلقية، الذاتية والصفاتية، كما قال الله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} (النّجم-9) . ثمّ تأمّل في صورة الباء ورسمه مرّة أخرى، تجدُ أنّه عبّرَ عن رسمِ الألف من جانبه الأعلى، أي ظهرَ في الباءِ رسماً الألفُ الأعلى فوق النّقطة لا الألِفُ الوهميّ الأسفل الدّالُ على الأكوان والعوالم، فعبّر عن رسمِ الألفِ في جانبه الأعلى كما ذكرنا أي في تقديسه وواحديّته، وأسمائه، وكمالاته، لمّا كانت صورة الأكوان والعالم منعكسةً تقديراً تحت نقطة رسمه، كأنّها وهمٌ وظلالٌ وأثرٌ وحسب، لا أصلٌ. فكان له - صلوات الله وسلامه عليه - هذه المرتبة العليا، وهي الكمالات الإلهية والكمالات الإنسانية، والصفات الرّحمانية، لأنّه حمل جانبها العلويّ الأعلى، ولذلك فالرّحمانية هي أعلى مراتب الوجود، لأنّها تُعطي ما أعطاهُ رسمُ حرف الباءِ، وهو رسم لنا صورة الألف الغيبي المقدّس، والنّقطة تحته، أمّا عالمُ الأكوان فهو ألفٌ منعكِسٌ تقديراً كما قدّرناهُ تحت نقطة الباء، إذ هو صورة الأسماء ومرآةُ الصّفات، فهو منفعلٌ من عالم الملكوت، يتبعه؛ وأثرٌ لتجليّات الأسماء، يلحقُها؛ وإنّما إحكامُ ما عليه كمالاتُ الله سبحانه وتقديسه وجماله وجلالُه وتنزيهه عن كلّ نقصٍ وخلل سبحانه وتعالى، أعطى العالَم بهذا الترتيب المُحكم المتناسق المتكامل الذي لا يشوبُهُ خللٌ ولا نقص ولا فطور، فكلّ شيء مرتبط ببعضه، والعالم قائمٌ على الأسباب والحكمة قياماً دقيقاً لا يتناهى، تعبيراً عن كمال حكمته ومنتهى القدرة والتقدير والإبداع والجمال والإحكام. فلا يقومُ شيءٌ إلاّ بما يُقيمُهُ من حكمة وسبب، وعلى هذا قامت الأقدارُ الإلهية، وهي - أي الأقدار- ليست سوى تجلّيات إلهية كما ذكرنا، تعيّنت في عالم الحكمة والتعيّن والصور، وأعطت ما أعطت من تقدير وأقدار وارتباطات.

وهذه النّسبة والمرتبة الرّحمانية العليا هي اعتبارية في حقيقتها، دلّتْ على الرّحمة التي قامَ عليها الوجود وسبقتْ كلّ شيءٍ، ودلّتْ على مجلى العماء الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ، وما تمايز فيه شيءٌ عن شيءٍ، في السّفلِ والعلوّ. كما جاء في الحديث الشريف : عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ قَالَ : ( كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحديث صححه الطبري ، وحسَّنه الترمذي والذهبي. وكلّ ما سوى الله سبحانه هو اعتباريّ، ورحلة التحقّق والتفريد والعودة إلى الصورة يجعلُ العبدَ يشهدُ أنّ كلّ ما سوى الله عدمٌ، ولم يذقْ طعم الوجود ولم يشمّ رائحته أصلاً.

ويمكنُ القولُ إعلاماً وتنبيهاً كذلك، أنّ الألف كان مجلى الكتاب، فهو الحرفُ الكاتب الذي كتبَ أقضية الله وأقداره، وأظهرَ التجليّات، وتوسّط للأسماء، أو فلَقَها من عمائها ونقطة كنهها، وجمَعَها في وحدتِها الجامعة؛ والباءُ هو القارئ لهذا الكتاب، كتاب الألف ومترجمُه عالَماً وأكواناً وكائنات، الباءُ هو مرآةُ التجلّي الأسمائي والألفيّ. كما قال صلّى الله عليه وسلّم ” وَاللَّهُ الْمُعْطِي، وَأَنَا الْقَاسِمُ“ صحيح البخاري. فعبّر صلوات الله وسلامه عليه عن هذه الترجمة والمقام الذي أقامه الله فيه كما ذكرناه، أنّه القاسم لما أعطى الله، والمترجمُ لما تجلّى به الله سبحانه من بحرِ القدم إلى عالم الحوادث. ولذلك فصاحب الكتاب هو الخاتم الخليفة وهو العبدُ الذي أنزل الله عليه الكتاب، وكان إمام الواحدية والأحدية، الألف وخليفة النقطة المصمتة. وكان صاحب القرآن والذي أنزل الله عليه القرآن هو النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم، وكلّها اصطلاحاتٌ جاءت بدلالاتها وأسرارِها. كان المتخصّص بالقرآن الجامع القاسم هو صلوات الله وسلامه عليه، فهو الخليفة الأعظم. ولمّا كانت العوالمُ مشهد ومجلى الأسماء الإلهية، ومرآةُ صفاتِها، وكان الإنسانُ خليفةً اختارته العناية الأزلية، تجلّى كما ذكرنا سابقا وظهر الأنبياء عليهم السلام والأولياء المحمّديون ليعبّروا عن هذه الأسماء، وهذه الصفات الإلهية، فتخصّص كلّ بإسم وصفة، وظهرَ الخلفاء عبر المسيرة البشرية. وهم في الحقيقة خلفاءٌ على صورة الألف وصورة الباء، تحقّقوا بذلك وصحّت لهم الصورتين، فالصورة العلوية في جمعيتها واحدة، إذ ما ثمّ إلاّ هو سبحانه، فافهم. ولكن اختلفَ الخلفاءُ في مظاهر آثارِهم ووجودِهم الدنيويّ والحياتيّ، فهناك كلّ لما خلِقَ له، ولما هو ميسّرله، حسب طبيعة الصفة والإسم التي اختصّه الله به، من كونه مظهر تلك الصفة، أمّا التحقّق العلويّ فهناك تفاوتٌ وكاملٌ وأكملٌ، بحسبِ كذلك مقامِ الإسمِ الإلهيّ وشموله وإحاطته ورتبته. وإلاّ فالله تعالى يقول سبحانه : {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ..} 110 الإسراء. ومن هنا كانت الأكوان مجلى هذه الأسماء وهيمنتها ورتبها. وكان اسمُ الرّحمن هو المستوي على عرش الأكوان. كما شرحنا إذ له مقامُ الصفات التي منه ظهرتْ الأكوانُ والآثارُ، وكما هي صورة الباء التي رسمناها على هيئة الإكس والساعة الرملية، دالّة على استواء اسمِ الرّحمن على عرش المخلوقات، إذ هو واسطة تجلّيها. بينما كان اسمُ الله تعالى دالاًّ على القدمِ، ودالاًّ على نقطة الكنه والعماء، التي هي مصدرُ كلّ شيءِ، فالحروف كلّها باختلافها والكلمات بتنوّعها ولا نهاياتها صدوراً، رسمُها عند تجريدها هو ألفٌ، فهو خلفيتُها. وكذلك مرجعها الى النّقطة كما سبق أن ذكرنا، ومن هنا كان الألِفُ الخليفة الذي خلفَ النّقطة، وقامَ به العالم، كما قامت به الحروف والسّطور، فهو خليفة النّقطة في عالم الظهور والحروف والكلمات، فالنّقطة معبّرة عن دواة الحبر، بلا نهاية، مصمتة كنزية لا انتهاء لإمدادتها، ومعانيها وتجليّاتِها وكلماتِها، والألِفُ هو مِدادُ الحبرِ، والقلمُ الكاتِبُ، الذي خطّ كلّ شيءٍ.

ولذلك في الرّسم الذي وضعناه، ترى أنّ الألف كان قائماً للدّلالة على استقلاله وقيّوميّته وصمديّته، ثمّ انشقّ منه حرفُ الباء نائماً، للدّلالة على الظلّية لحرف الألف؛ ثمّ ارتفع خطّ الباء الذي هو ظلّ الألف إلى أعلى، وبقيت النّقطة تحت، وحدث الإسقاطُ للألف الأعلى ألفٌ آخر تحت النّقطة أعطى عالم الأكوان والخلْق. فذلك هو حرفُ الباء الذي توسّط في ظهور العالم والخلْق كما ترى من رسمِ الباء. ثمّ عُدنا إلى رسمِ ألفِ نائمٍ أو ألفين متّحدين متقاربين على المستوى الأفقيّ للنّقطة، ليُعبّرَ عن اندماج الألفين، الأعلى والأسفل، الصّفاتي والمرآتي، فصارا ألفاً واحداً، هو ذاتُ الألف الأوّل، المعبّر عن شهود الحقّ والخلْق من مقام الجبروت، وبالصورة الألفية والخلافة الإلهية ومقام الولاية الكبرى. وهناك تنعدِمُ في نظرِ الوليّ الموجودات والكائنات، ولا يشهد فيها إلاّ الله سبحانه، ولا يرى إلاّ هو، وهو مقامُ بقاء البقاء، وآخر التحقّقات، ومقام ختم الولاية. فتأمّل في سرّ رسمِ حرف الباء وما يحويه. والله أعلى أعلم.

ثمّ إنّك هنا تشهدُ رتبة هذا الخليفة الختم المجذوب، في اجتماع الخطّين فيه الوهميّ والأصليّ، فجمع الأضداد، وتمايزَ فيه السّفلُ والعلوّ، بحكمِ وجوده في عالمِ الأكوان، وتحت التركيب العنصريّ، فأعطى وجوده اجتماع الأضداد، كما هو الأصلُ الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ ولكن في العماء والقدم ما تمايز العلوّ عن السّفل، فما ثمّ إلاّ هو، ولمّا خرج إلى الوجود والظهور في الدّنيا، شابه الأصل الذي هو أصلُه، ورتبتُه، حتّى إذا انسلخ من الوهمية والتركيب العنصريّ، تطهّر من الأكوان، وختمَ الدّنيا، بارتفاع خطّها الوهميّ عن السّفل، وعودته إلى أصله حيث تجلّي الإسم الأعظم. فهو لم يخرجْ من رتبة الألف، مختلفاً عن غيره. والله أعلى وأعلم.