الأحد، 2 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 27

- 27 -

لا يهولنّك ما ذكرناه، فقولنا أنّ الحق يظهر في المهدي بذاته، هو ذاتُ قولنا أنّ القرآن بلفظه هو كلامُ المهدي عليه السلام. والمهدي هو الحقّ تعالى الظاهر بذاته على صورة الإنسان. وهذا هو معنى خليفة الله كما نعتته النبوّة.

فالقرآن كلامُ الله تعالى في الاعتبارين : اعتبار القِدَم و التنزيه عن الحروف والأصوات قبل خلق الإنسان، والقرآن كلامُ الله المتعبّد بتلاوته ولفظه بحروفه وأصواته هو لفظ إسم الذات، لفظ الله في مظهره الذاتيّ.

ألا ترى أنّ الله تعالى يتجلّى بين التنزيه والتشبيه، وتلك هي عقيدة أهل العرفان بالله تعالى. وتلك هي الحقيقة.

إنّما ضُرِبَ الكتمُ لخطر السرّ، وقلنا أنّ التنزيهيين هم أقربُ إلى فسطاط الحقيقة، لأنّهم أشاروا إلى الإطلاق خلاف المجسّمة فقد قيّدوا الحقّ سبحانه ومنعوا التنزيه في ذاتِ الوقتِ بتجسيمهم المحض. فشابهوا الحقّ بالخلق. والحقّ تعالى منزّهٌ ليس كمثله شيء فهو حقيقة الحقائق، وهو الإطلاق، والحقّ تعالى هو المتجلّي في الخلق، فليس الخلق سوى أطياف الحقّ تعالى و تجليّاته.

قال الشيخ الأمير عبد القادر الجزائري رضي الله عنه في كتاب المواقف الروحية في الموقف التاسع :

{ورد في صحيح مسلم : "إنّ الله تعالى يتجلّى لأهل الموقف ويقول لهم :أنا ربّكم فيقولون له نعوذ بالله منك لست أنت ربّنا، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه"

سأل واردُ الوقت على التجلّي، الذي يكونُ أولا لأهل المحشر، ويستعيذون منه، المنزّه والمشبّه، إلاّ العارفين بالله تعالى ماهو ؟ فإنّه لو كان تجلّي تنزيه، لأقرّت به المنزّهة. ولو كان تجلّي تشبيه، لأقرّت به المشبّهة. وليس المعروف إلاّ هاتين المرتبتين. فكان الجواب : أنّه تعالى يتجلّى في ذلك اليوم بتجلٍّ جامعٍ للتنزيه والتشبيه، على وجه لا تهتدي إليه العقول، ولا الكشف الآن. وما عرف الحقّ تعالى إلاّ بجمعه بين الأضداد، بل هو عينُ الأضداد، لا أنّ هناك عيناً جامعة للأضداد. ولذا كان لا يُعرفُ الحقّ تعالى ويقرُّ به إلاّ الطائفة العارفة به ، الجامعة بين اعتقاد التنزيه والتشبيه في الدار الدنيا، وكلّ ما عداها من الطوائف، فإنّه يستعيذ من الحق تعالى ، ثمّ يتجلّى لهم في معتقداتهم فيه وتخيّلاتهم له في الدنيا، فيقرّون به، ويعترفون له بالربوبية ، وهو هو المنكرو أوّلاً، المعروف ثانياً ، فسبحان الواسع الحكيم.
} انتهى.

فانظر في هذا الحديث الشريف الجليل، وهذا الشرح النّفيس والوقوف الجميل من الشيخ العارف بالله الأمير رضي الله عنه، وتأمّل ما قلناهُ لتعلمَ أنّ القرآن كان كلامَ الله في حالتيه، في تنزيهه عن الألفاظ والحروف والصوت، وتشبيهه بالحروف والأصوات والألفاظ.

وتأمّل تارةً أخرى في ما قلناهُ حول المهدي وحقيقته أنّه الخليفة والحقّ تعالى في مظهر التشبيه بسرّه الإنسانيّ كما كان النبيّ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه جامعا لسرّ الرّحمة والواسطة إلى ربّه، وأنّه الحقّ تعالى بكنهه وسرّه المطلق المنزّه المراد.

وتأمّل تارةً أخرى حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم {رأيتُ ربّي في أحسن صورة}
وغيره من الأحاديث المروية في هذا الشأن، لتعلمَ أنّ الحقّ تعالى جامعٌ بين التنزيه والتشبيه.

فهو سبحانه عين المتجلّي في الخلق، قال الله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة. أينما تولّي وأيّ شيءٍ تستحضر فثمّ وجه الله، وقال بعض العارفين بالله : قوله وجه الله، فالوجه يدلّ على المعرفة فأنت تعرفُ النّاس بوجوههم. وهذه لفتةٌ نفيسة جليلة.

فالأشياء تدلُّ على وجه الله سبحانه، أي على معرفته فهي حضرة الصفات المتجليّة من عين الذات.

فهي دالّة على الله معرّفةٌ به في محتدها الخاصّ بها، فكلّ شيء في الوجود له محتدُه الخاصّ به الذي يعودُ به إلى ربّه. فأنتَ لا تقولُ للشيء هو الله، فالله سبحانه ليس كمثله شيء. فهو منزّه عن كلّ شيءٍ. ولكنّ كلّ شيءٍ له محتدٌ يدلُّ على وجه الله سبحانه، يدلّ على العلم بالله ومعرفته وأنّه صفةٌ وتجلٍّ تجلّى من عين الذات. فالذين قالوا أنّ الصّفات هي عين الذات يريدونَ أنّ الذات تجلّت بذلك التجلّي الخاص في مظهر تلك الصّفة، فافهم. وهكذا في كلّ شيءٍ وفي كلّ صورةٍ وأينما ولّيت فهناك وجه الله وهناك في ذلك الشيء وتلك الصورة محتدٌ يعودُ به إلى الذات، إلى عين الذات. كشخصٍ يظهرُ تارةً بصورة فلان وتارةَ أخرى بصورة علاّن وهكذا. فأنت تقولُ هو عين الشخص تريدُ الذي اردته بالإشارة أنّه عينُه الظاهر بصورة فلان. فقولك عينُه هو ذاته كثرة، لأنّك عيّنتَ بقولك أنّه ظهر بصورةٍ مغايرة لما هو عليه، فقد وحّدت في الكثرة. وعدّدت في الوحدة. وهذا هو الذي يطلقون عليه الواحدية. أي الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة. وهذا هو المراد بالواحدية، والواحدية هي مظهر صفة الألوهية.

لأنّها تجمعُ بين الوحدة الدالّة على الواحد الأحد، والكثرة الدالّة على المظاهر والصّفات والتجليّات. وهنا قال الشيخ الأكبر في كتاب عنقاء مغرب في وصف الختم الخليفة بقوله : "هو شق في خلقه، وشطر من جهة خلقه وحقّه، فانظر هناك تجده واياك.." انتهى.
فقوله شطر من جهة خلقه وحقّه هو الإشارة لما ذكرناه إلى الواحدية التي تدلُّ على الكثرة والوحدة من جهتيها : الحقّ والخلق، فالخلق عين الحقّ. وهذا هو مقامُ قاب قوسين الذي تشرّفَ برؤيته وشهوده نبيّ الله صلوات الله وسلامه عليه حين دنا فتدلّى الروح واخترقَ الحبيب عند سدرة المنتهى فرأى من آيات ربّه الكبرى فكان قاب قوسين أو أدنى : قوس الحقيّة وقوس الخلقية، رأى الروح عند سدرة المنتهى بشطريه وقوسيه وأنّه عين الحقّ وعين الخلق. أو أدنى عند ارتفاع الاثنينية بشهود الأحدية. وهذا هو المعبّر عنه بنزول الرّوح على القلب. ويصبحُ قلب العبد روحاً قدسياً. فافهم.
ثمّ قال الشيخ الأكبر "فانظر هناك تجده واياك" اي انظره عندك فهو حقيقتك، قال صلى الله عليه وسلّم "من عرف نفسه فقد عرف ربّه".

لذلك فالحقائق المكتومة المبهرة تأمّل فيها تجدُها تنطِقُ بآيات الله وحديث نبيّه الأعظم صلى الله عليه وسلّم. فلم يبقَ غير الذين تحجّرت نفوسهم واتخذوا نفوسهم اصناماً حالت بينهم وبين الحقّ وهو في عزّ ظهوره، حسداً، أو ضيقاً ، أو رفضاً أن يكونَ وراء ما يعرفونه من بضاعةٍ مزجاةٍ حقائق كهذه الحقائق.

وانظر تارةً أخرى فيما قاله الشيخ الأكبر وصفاً لهذا الختم والخليفة : "وإنّ الصديق الأكبر تحت لوائه ، وأنّه سيّد الأولياء كما أنّ سيدنا محمد سيّد أنبيائه، وإن شئت أوضحته لك في العدد، وأقسم لك بهذا البلد، إنّه للسيّد الصّمد، فانظره في ثلاثين عددا، وكن لشيطان جهلك شهاباً رصدا، فإن لم تقوَ على التفسير ، فعن قريبٍ يأتيك بقميصه البشير، فيكشف كروبك ويرتدّ بصيراً يعقوبك، هو شق في خلقه، وشطر من جهة خلقه وحقّه، فانظر هناك تجده واياك.." انتهى.

فقد أقسم أنّه السيّد الصّمد، والصّمد هو الله، والصّمد هو الذي استغنى بنفسه عن غيره، وصمدَ إليه غيره. وهذه صفة القيّوم الواحد الأحد سبحانه. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الإخلاص.

ثمّ قال فانظره في ثلاثين عددا، ويريدُ قوله تعالى : {الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)} البقرة. عدد الحروف في هذين الآيتين ثلاثين حرفاً. وقد ورد فيها ذكرُ المهدي. وحقيقته :

بقوله : الم ، وهي ألف لام ميم : ألف الذات ولام الأسماء (لام العلم) وميم الصفات (ميم التعيّن والحكمة). وهي حقيقة الكتاب وحقيقة الإنسان الكامل : ذلك الكتاب الذي أنزله الله على عبده المهدي، وهذا الكتاب هو هدى للمتّقين.
إذا اختصرنا الجملة : الم + هدى = المهدي.

وقال سبحانه : {الم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} آل عمران
وهنا تعريفٌ بمعنى : الم.

يتبع ..